حراك طلاب أمريكا- دعم فلسطين، تحدٍّ لإسرائيل وتغيير السياسة الخارجية

المؤلف: د. الخير عمر أحمد سليمان10.23.2025
حراك طلاب أمريكا- دعم فلسطين، تحدٍّ لإسرائيل وتغيير السياسة الخارجية

لقد كان يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول عام 2023م يومًا استثنائيًا، يحمل في طياته تحولات عميقة للقضية الفلسطينية وللعالم قاطبة. فالمواجهة التي اندلعت في ذلك اليوم المشؤوم ما زالت تداعياتها تتفاعل بقوة، سواء على الساحة الفلسطينية الداخلية أو في منطقة الشرق الأوسط بأسرها. لقد خلّفت هذه الأحداث آثارًا جمة ستظل بصماتها راسخة على مستقبل القضية الفلسطينية بأبعادها المتنوعة.

وبنفس القدر من الأهمية والرمزية، يمثل السابع عشر من أبريل/نيسان 2024م منعطفًا حاسمًا في مسيرة الاحتجاجات الطلابية في الولايات المتحدة. ففي هذا اليوم، انطلقت شرارة التظاهرات من رحاب جامعة كولومبيا العريقة في ولاية نيويورك، حيث عبّر الطلاب عن غضبهم واستنكارهم للمجازر الوحشية وعمليات التصفية الممنهجة التي ارتكبتها إسرائيل في حق سكان غزة الأبرياء.

اقرأ أيضا

list of 2 items
list 1 of 2

جامعة كولومبيا تبرر تسوية مع إدارة ترامب بسبب الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين

list 2 of 2

جامعة كولومبيا تعاقب الطلاب المؤيدين لفلسطين

end of list

إن ما منح هذه الاحتجاجات زخمًا مدويًا هو انطلاقها من جامعة مرموقة تحتل مكانة رفيعة بين جامعات العالم. فجامعة كولومبيا خرّجت نخبة من الشخصيات المؤثرة التي لعبت أدوارًا جوهرية في صياغة الأحداث وتحديد مصير العالم، ولا تزال تتبوأ مكانة محورية في هذا الصدد.

علاوة على ذلك، تُعد جامعة كولومبيا من بين الجامعات الأمريكية التي تربطها علاقات وثيقة وشراكات متينة مع إسرائيل. فهناك برنامج للشهادات المزدوجة يجمع بين جامعة كولومبيا وجامعة تل أبيب، بالإضافة إلى وجود مركز عالمي في تل أبيب، وهو أحد الفروع التابعة لمراكز كولومبيا العالمية التي تهدف إلى دعم الدول في حل المشكلات المعقدة التي تواجهها. ومن هذا المنطلق، يُنظر إلى الحراك الطلابي الذي انطلق من جامعة كولومبيا نظرة خاصة.

تُعتبر جامعة كولومبيا مؤسسة تعليمية رائدة ومؤثرة على مستوى مؤسسات التعليم العالي في الولايات المتحدة والعالم. وقد تجلى هذا التأثير جليًا في صدى الاحتجاجات التي انطلقت من حرمها الجامعي، حيث امتدت إلى جامعات وكليات أخرى، وأقام مئات الطلاب مخيمات احتجاجية في ما لا يقل عن اثني عشر حرمًا جامعيًا في أنحاء أمريكا تنديدًا بالانتهاكات الإسرائيلية ضد سكان غزة.

ومما زاد من وهج هذا الحراك أن أغلب المتحدثين باسم الطلاب كانوا من اليهود، وأن عملية توفير الطعام للمتظاهرين كانت تتم بدعم من شريحة واسعة من سكان مدينة نيويورك، مما أضفى على هذا الحراك طابعًا شعبيًا تجاوز أسوار الجامعة.

مطالب الحراك

لقد تجسدت المطالب الرئيسية للمتظاهرين في الدعوة إلى وقف إطلاق النار الفوري في غزة، ومقاطعة إسرائيل. وتتباين وجهات النظر حول مطالب مقاطعة إسرائيل من جامعة إلى أخرى، ولكنها تتفق في جوهرها على دعم وقف العدوان على غزة ومناصرة القضية الفلسطينية العادلة.

فمنهم من طالب بوقف التعامل مع الشركات المصنعة للأسلحة التي تزوّد إسرائيل بها، ومنهم من دعا إلى عدم قبول تمويل الأبحاث العلمية التي تخدم الأغراض العسكرية، ومنهم من ناشد بوقف استثمار الأوقاف الجامعية مع مديري الأموال الذين يستفيدون من الشركات أو المقاولين الإسرائيليين، فضلًا عن مطلب آخر يدعو إلى ضرورة الشفافية في الكشف عن الأموال التي يتم تلقيها من إسرائيل والأغراض التي تُستخدم فيها.

ووفقًا لبيانات وزارة التعليم الأميركية، فقد أفادت حوالي 100 كلية أمريكية بتلقي هدايا أو عقود من إسرائيل بقيمة إجمالية تبلغ 375 مليون دولار على مدى السنوات العشرين الماضية. والمثير للدهشة أن البيانات المتاحة لا تكشف إلا عن جزء يسير من مصادر هذه الأموال وكيفية استخدامها. فوفقًا للمركز الوطني لإحصاءات التعليم لعامي 2019م-2020م، بلغ عدد الكليات الجامعية في الولايات المتحدة 3.982 جامعة.

وعند مقارنة عدد الكليات التي قدمت تقارير لوزارة التعليم عن حجم الدعم المالي الذي تتلقاه من إسرائيل بتلك التي لم تقدم تقارير بهذا الشأن، نجد أن الفجوة المعلوماتية شاسعة. وعليه، فإن الافتراض بوجود أو عدم وجود ارتباطات بين هذه الكليات وإسرائيل يظل قائمًا بقوة، ويعكس حجم الفرص المتاحة لها لتطوير قطاع الصناعات الدفاعية بالتعاون مع المؤسسات العلمية الأميركية. ومن ثم، يكتسب مطلب المتظاهرين بقطع أي صلات لهذه الجامعات والكليات بإسرائيل وجاهة وأهمية بالغة.

خصوصية الحراك

من المعلوم أن الجامعات الأميركية شهدت موجة عارمة من الاحتجاجات في منتصف الستينيات من القرن العشرين بسبب حرب فيتنام. وقد ترافقت حركة التذمر ضد الحرب مع تصعيد الرئيس الأميركي ليندون جونسون للعمليات العسكرية وزيادة عدد القوات المشاركة.

قد تختلف التفسيرات الخاصة بدواعي تصاعد الحراك الطلابي المناهض للحرب ما بين العام والخاص. فالعام يتعلق برفض الانتهاكات التي رافقت الحرب بدرجة محدودة، حسب تقديري الشخصي. أما الخاص فيرتبط بمصالح شريحة عريضة من الطلاب الذين انتظموا في ذلك الحراك، وهو عدم استعدادهم للانضمام للجيش والمشاركة في الحرب ضمن ما يُعرف بالخدمة العسكرية. وأنا أميل لترجيح كفة هذا الدافع على ما عداه من دوافع، من واقع استبسال المقاومة الفيتنامية في إلحاق الأذى البدني المباشر بأفراد الجيش الأميركي.

وبالتالي، كان الطلاب يرون في الذهاب والمشاركة الفعلية في الحرب أمرًا يحمل درجة عالية من الخطورة على حياتهم، وجاءت معارضتهم من هذا المنطلق. بينما الحراك الطلابي الداعم لوقف الانتهاكات الموجهة ضد أهالي غزة بشكل خاص والداعم للقضية الفلسطينية بشكل عام، ارتبط بشكل مباشر بعاملين اثنين:

  • العامل الأول، يتعلق بالموقف الأخلاقي من الحرب ورفض الإبادة الجماعية الممنهجة التي قامت بها إسرائيل والمدعومة من قبل الولايات المتحدة. وهذا فرق كبير للغاية من المنظور الإنساني والسياسي. فالحراك الطلابي المناصر لغزة نابع من وعي سياسي عميق وموقف أخلاقي يتجاوز دائرة المصلحة الشخصية، كما كان الحال في حرب فيتنام، مع الأخذ في الاعتبار الاختراق الكبير الذي أحدثه هذا الحراك في فتح باب النقاش واسعًا - وبصورة لم يسبق لها مثيل - حول العلاقة بين إسرائيل والولايات المتحدة، وجدوى هذا التحالف الذي ظل يكلف دافع الضرائب الأميركي ما يقدر بـ 3.3 مليارات دولار سنويًا.

وقد بلغ حجم الدعم العسكري المقدم لإسرائيل منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023م، تاريخ الحرب الدائرة في غزة، ما قيمته 12.5 مليار دولار. فالعلاقة مع إسرائيل ونقد سياستها ودور اللوبي الصهيوني، تُعد من الأمور المحرم نقاشها على أي مستوى من المستويات، وذلك لما لهذا اللوبي من سطوة كبيرة على مختلف هياكل السلطة وأبنيتها في نطاق النظام السياسي الأميركي.

  • العامل الثاني الأهم، هو أن نجاح الشعب الفلسطيني بشكل عام وأهالي غزة بشكل خاص في الصمود أمام آلة القمع الإسرائيلية المدعومة بالقوة العظمى الأميركية - وعدم انكسارهم وإصرارهم على عدم مغادرة أراضيهم، رغم الكلفة البشرية العالية جدًا - سبب رئيسي في كسب تعاطف الطبقة المستنيرة داخل الولايات المتحدة الأميركية ممثلة في طلاب الجامعات.

تمدد هذا التعاطف والتفهم لعدالة قضية الشعب الفلسطيني بشكل لم يسبق له مثيل، وقد نجح المواطن الفلسطيني من خلال استخدام وسائل التواصل الاجتماعي في مخاطبة الرأي العام العالمي بشكل عام والرأي العام الأميركي المستنير بشكل خاص، وبصورة تجاوز فيها سطوة وسائل الإعلام التقليدية التي كانت تحتكر الرواية الخاصة بالقضية الفلسطينية بصورة ساهمت في عدم وصولها للشعوب الحرة التي تؤمن بحقوق الإنسان، والتي من بينها الحق في الحياة.

الدروس المستفادة

رغم أن حجم الحراك الطلابي قد انخفض بشكل ملحوظ في الوقت الحالي بسبب نهاية العام الدراسي الجامعي بالولايات المتحدة الأميركية، فإنه حمل بين طياته مجموعة من الدروس القيّمة، من بينها أنه مهما كانت عدالة القضية المعنية - القضية الفلسطينية - وحجم الدعم الذي يمكن أن تحظى به، يظل العامل الحاسم في استمرار التعاطف والتأييد مرتبطًا بمتغير مستقل أوحد، وهو درجة صمود أصحاب القضية واستعدادهم للتضحية مهما كان حجمها، بغية الوصول لأهدافهم العادلة. وبالتالي، لم يكن ممكنًا أن تحظى القضية الفلسطينية بهذا التأييد لولا صمود أهل غزة والصورة النادرة التي قدموها للعالم.

الأمر الثاني هو أن الانتباه لقوة وسائل التواصل الاجتماعي والاستعانة بها في الوصول للرأي العام العالمي من الأمور التي أسهمت بشكل إيجابي في شرح القضية الفلسطينية وكسب المناصرة والتأييد لها.

ومن الدروس المهمة التي أفرزتها تجربة الحراك أن البعد الإنساني والقيمي يُعتبر من الأمور المهمة التي تدفع شريحة مقدرة من الناس للتعاطف مع قضية ما - القضية الفلسطينية - بصورة تتجاوز حواجز الديانات والمعتقدات والجغرافيا، فأغلب المتظاهرين الذين خرجوا محتجين على ما أفرزته الحرب الدائرة من انتهاكات موجهة ضد الفلسطينيين لم يكونوا مسلمين وليست لهم أي ارتباطات مباشرة بمنطقة الشرق الأوسط ولا يعرفون عنها إلا القليل.

التوقعات المستقبلية

إن مستوى الوعي الذي أفرزه الحراك الطلابي داخل الجامعات الأميركية سيشكل نقطة انطلاق لتغيير الأسس التي يتم من خلالها النظر للسياسة الخارجية وتحديد خياراتها بناءً على معيار المصلحة الملتزم بالأبعاد الأخلاقية. والخاسر الأكبر في هذا الصدد سيكون إسرائيل، وسيسهم ذلك في تعميق عزلتها، الأمر الذي سيصب في مصلحة القضية الفلسطينية على المدى الطويل، بالنظر إلى أنه يمكن أن يشكل هؤلاء المتظاهرون الطبقة السياسية الحاكمة في أميركا على المدى البعيد.

من جهة ثانية، ستنحسر سطوة اللوبي الصهيوني على مستوى السياسة الخارجية الأميركية تجاه منطقة الشرق الأوسط إجمالًا وإسرائيل على وجه الخصوص بتأثير حملة الوعي التي ابتدرها طلاب الجامعات الأميركية عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وبعيدًا عن سطوة وسائل الإعلام التقليدية المعروفة كالـ "CNN" و"FOX News" وغيرهما.

ومن المتوقع أن تتصاعد فاعلية استغلال وسائل التواصل الاجتماعي من قبل الفلسطينيين للوصول للرأي العام الأميركي بشكل منهجي سيأخذ في الحسبان التكوين النفسي والفكري والقيمي الذي ينطلق منه المواطن الأميركي لضمان تأثير أكبر في شرح قضيتهم، فضلًا عن توقعات بنشر الوعي الإلكتروني المرتبط باستخدام وسائل التواصل الاجتماعي وسط الشعب الفلسطيني، الأمر الذي سيعقد من مسار وحركة قطار التطبيع في المنطقة على خلفية الوعي المفترض تأسيسه وانتشاره.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة